سورة يونس - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


هذا نفي قول من قال من قريش إن محمداً يفتري القرآن وينسبه إلى الله تعالى، وعبر عن ذلك بهذه الألفاظ التي تتضمن تشنيع قولهم وإعظام الأمر كما قال تعالى: {وما كان لنبي أن يغل} [آل عمران: 161] وكما قال حكاية عن عيسى عليه السلام {ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} [المائدة: 116] ونحو هذا مما يعطي المعنى والقرائن والبراهين استحالته، و{يفترى} معناه: يختلق وينشأ، وكأن المرء يفريه من حديثه أي يقطعه ويسمه سمة، فهو مشتق من فريت إذا قطعت لإصلاح، و{تصديق} نصب على المصدر والعامل فيه فعل مضمر وقال الزجّاج: هو خبر {كان} مضمرة، والتقدير المتقدم للشيء، وقالت فرقة في هذه الآية: إن الذي بين يديه هي أشراط الساعة وما يأتي من الأمور.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ، والأمر بالعكس كتاب الله تعالى بين يدي تلك، أما أن الزجّاج تحفظ فقال: الضمير يعود على الأشراط، والتقدير ولكن تصديق الذي بين يديه القرآن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أيضاً قلق، وقيام البرهان على قريش حينئذ إنما كان في أن يصدق القرآن ما في التوراة والإنجيل مع أن الآتي بالقرآن ممن يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب ولا هي في بلده ولا في قومه، و{تفصيل الكتاب} هو تبيينه، و{لا ريب فيه} يريد هو في نفسه على هذه الحالة وإن ارتاب مبطل فذلك لا يلتفت إليه، وقوله: {أم يقولونه افتراه} الآية، {أم} هذه ليست بالمعادلة لألف الاستفهام التي في قولك أزيد قام أم عمرو، وإنما هي تتوسط الكلام، ومذهب سيبويه أنها بمنزلة الألف وبل لأنها تتضمن استفهاماً وإضراباً عما تقدم، وهي كقوله: إنها لا بل أم شاء، وقالت فرقة في {أم} هذه: هي بمنزلة ألف الاستفهام، ثم عجزهم في قوله {قل فأتوا بسورة مثله} والسورة مأخوذة من سورة البناء وهي من القرآن هذه القطعة التي لها مبدأ وختم، والتحدي في هذه الآية وقع بجهتي الإعجاز اللتين في القرآن: إحداهما النظم والرصف والإيجاز والجزالة، كل ذلك في التعريف بالحقائق، والأخرى المعاني من الغيب لما مضى ولما يستقبل، وحين تحداهم بعشر مفتريات إنما تحداهم بالنظم وحده.
قال القاضي أبو محمد: هكذا قول جماعة من المتكلمين، وفيه عندي نظر، وكيف يجيء التحدي بمماثلة في الغيوب رداً على قولهم {افتراه}، وما وقع التحدي في الآيتين هذه وآية العشر السور إلا بالنظم والرصف والإيجاز في التعريف بالحقائق، وما ألزموا قط إتياناً بغيب، لأن التحدي بالإعلام بالغيوب كقوله
{وهم من بعد غلبهم سيغلبون} [الروم: 3] وكقوله {لتدخلن المسجد الحرام} [الفتح: 27] ونحو ذلك من غيوب القرآن فبين أن البشر مقصر عن ذلك، وأما التحدي بالنظم فبين أيضاً أن البشر مقصر عن نظم القرآن إذ الله عز وجل قد أحاط بكل شيء علماً، فإذا قدر الله اللفظة في القرآن علم بالإحاطة اللفظة التي هي أليق بها في جميع كلام العرب في المعنى المقصود، حتى كمل القرآن على هذا النظام الأول فالأول، والبشر مع أن يفرض أفصح العالم، محقوق بنيان وجهل بالألفاظ والحق وبغلط وآفات بشرية، فمحال أن يمشي في اختياره على الأول فالأول، ونحن نجد العربي ينقح قصيدته- وهي الحوليات- يبدل فيها ويقدم ويؤخر، ثم يدفع تلك القصيدة إلى أفصح منه فيزيد في التنقيح، ومذهب أهل الصرفة مكسور بهذا الدليل، فما كان قط في العالم إلا من فيه تقصير سوى من يوحي إليه الله تعالى، وميّزت فصحاء العرب هذا القدر من القرآن وأذعنت له لصحة فطرتها وخلوص سليقتها وأنهم يعرف بعضهم كلام بعض ويميزه من غيره، كفعل الفرزدق في أبيات جرير، والجارية في شعر الأعشى، وقول الأعرابي عرفجكم فقطع ونحو ذلك مما إذا تتبع بان. والقدر المعجز من القرآن ما جمع الجهتين اطراد النظم والسرد، وتحصيل المعاني وتركيب الكثير منها في اللفظ القليل: فأما مثل قوله تعالى: {مدهامتان} [الرحمن: 64] وقوله {ثم نظر} [المدثر: 21] فلا يصح التحدي بالإتيان بمثله لكن بانتظامه واتصاله يقع العجز عنه، وقوله {مثله} صفة للسورة والضمير عائد على القرآن المتقدم الذكر، كأنه قال: فأتوا بسورة مثل القرآن أي في معانيه وألفاظه، وخلطت فرق في قوله{مثله}من جهة اللسان كقول الطبري: ذلك على المعنى، ولو كان على اللفظ لقال: مثلها ، وهذا وهم بيّن لا يحتاج إليه، وقرأ عمرو بن فائد {بسورةِ مثلهِ}، على الإضافة، قال أبو الفتح: التقدير بسورة كلام مثله، قال أبو حاتم: أمر عبد الله الأسود أن يسأل عمر عن إضافة{سورة}أو تنوينها فقال له عمر كيف شئت، وقوله {وادعوا من استطعتم} إحالة على شركائهم وجنهم وغير ذلك، وهو كقوله في الآية الأخرى، {لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} [الإسراء: 88] أي معيناً، وهذا أشد إقامة لنفوسهم وأوضح تعجيزاً لهم.


المعنى: ليس الأمر كما قالوا في أنه مفترى {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه}، وهذا اللفظ يحتمل معنيين: أحدهما أن يريد بها الوعيد الذي توعدهم الله عز وجل على الكفر، وتأويله على هذا يراد به ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله {هل ينظرون إلا تأويله} [الأعراف: 53]، والآية بجملتها على هذا التأويل تتضمن وعيداً، والمعنى الثاني أنه أراد بل كذبوا بهذا القرآن العظيم المنبئ بالغيوب الذي لم تتقدم لهم به معرفة ولا أحاطوا بعلم غيوبه وحسن نظمه ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه، و{الذين من قبلهم} يريد من سلف من أمم الأنبياء، قال الزجّاج {كيف} في موضع نصب على خبر {كان} ولا يجوز أن يعمل فيها {انظر} لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه.
قال القاضي أبو محمد: هذا قانون النحويين لأنهم عاملوا {كيف} في كل مكان معاملة الاستفهام المحض في قولك: كيف زيد ول {كيف} تصرفات غير هذا، وتحل محل المصدر الذي هو كيفية وتخلع معنى الاستفهام، ويحتمل هذا أن يكون منها ومن تصرفاتها قولهم: كن كيف شئت، وانظر قول البخاري: كيف كان بدء الوحي فإنه لم يستفهم وذكر الفعل المسند إلى {العاقبة} لما كانت بمعنى المآل ونحوه وليس تأنيثها بحقيقي، وقوله تعالى: {ومنهم من يؤمن به} الآية، الضمير في {منهم} عائد على قريش، ولهذا الكلام معنيان قالت فرقة: معناه من هؤلاء القوم من سيؤمن في المستقبل ومنهم من حتم الله أنه لا يؤمن به أبداً، وقالت فرقة: معناه من هؤلاء القوم من هو مؤمن بهذا الرسول إلا أنه يكتم إيمانه وعلمه بأن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإعجاز القرآن حق، حفظاً لرياسته أو خوفاً من قومه، كالفتية الذين خرجوا إلى بدر مع الكفار فقتلوا فنزل فيهم {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} [النساء: 97] وكالعباس ونحو هذا، ومنهم من ليس بمؤمن.
قال القاضي أبو محمد: وفائدة الآية على هذا التأويل التفرق لكلمة الكفار، وإضعاف نفوسهم، وأن يكون بعضهم على وجل من بعض، وفي قوله {وربك أعلم بالمفسدين}، تهديد ووعيد، وقوله {وإن كذبوك}، آية مناجزة لهم ومتاركة وفي ضمنها وعيد وتهديد، وهذه الآية نحو قوله {قل يا آيها الكافرون} [الكافرون: 1] إلى آخر السورة، وقال كثير من المفسرين منهم ابن زيد: هذه الآية منسوخة بالقتال لأن هذه مكية، وهذا صحيح، وقوله تعالى {ومنهم من يستمعون إليك}، جمع {يستمعون} على معنى {من} لا على لفظها، ومعنى الآية: ومن هؤلاء الكفار من يستمع إلى ما يأتي به من القرآن بإذنه ولكنه حين لا يؤمن ولا يحصل فكأنه لا يسمع، ثم قال على وجه التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم: أفأنت يا محمد تريد أن تسمع الصم.
أي لا تكترث بذلك، وقوله {ولو كانوا لا يعقلون} معناه: ولو كانوا من أشد حالات الأصم، لأن الأصم الذي لا يسمع شيئاً بحال، فذلك لا يكون في الأغلب إلا مع فساد العقل والدماغ فلا سبيل أن يعقل حجة ولا دليلاً أبداً، {ولو} هذه بمعنى إن وهذا توقيف للنبي صلى الله عليه وسلم أي ألزم نفسك هذا، وقوله {ومنهم من ينظر إليك} الآية، هي نحو الأولى في المعنى، وجاء {ينظر} على لفظ {من}، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى، وإذا جاء أولاً على معناها فلا يجوز أن يعطف آخر اللفظ، لأن الكلام يلبس حينئذ، وهذه الآية نحو الأولى في المعنى كأنه قال: ومنهم من ينظر إليك ببصره لكنه لا يعتبر ولا ينظر ببصيرته، فهو لذلك كالأعمى فهون ذلك عليك، أفتريد أن تهدي العمي، والهداية أجمع إنما هي بيد الله عز وجل.


قرأت فرقة: {ولكنْ الناس} بتخفيف {لكِن} ورفع {الناسُ}، وقرأت فرقة {ولكنّ} بتشديد {لكنّ} ونصب {الناسَ}، وظلم الناس لأنفسهم إنما هو بالتكسب منهم الذي يقارن اختراع الله تعالى لأفعالهم، وعرف {لكن} إذا كان قبلها واو أن تثقل وإذا عريت من الواو أن تخفف، وقد ينخرم هذا، وقال الكوفيون: قد يدخل اللام في خبر {لكن} المشددة على حد دخولها في أن ومنع ذلك البصريون، وقوله تعالى: {ويوم نحشرهم} الآية، وعيد بالحشر وخزيهم فيه وتعاونهم في التلاوم بعضهم لبعض، و{يوم} ظرف ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره واذكر يوم، ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله {كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار}، ويصح نصبه ب {يتعارفون}، والكاف من قوله {كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار} يصح أن تكون في معنى الصفة لليوم، ويصح أن تكون في موضع نصب للمصدر، كأنه قال ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا، ويصح أن يكون قوله {كأن لم يلبثوا} في موضع الحال من الضمير في {نحشرهم} وخصص {النهار} بالذكر لأن ساعاته وقسمه معروفة بيّنه للجميع، فكأن هؤلاء يتحققون قلة ما لبثوا، إذ كل أمد طويل إذا انقضى فهو واليسير سواء، وأما قوله {يتعارفون} فيحتمل أن يكون معادلة لقوله: {ويوم نحشرهم} كأنه أخبر أنهم يوم الحشر {يتعارفون} وهذا التعارف على جهة التلاوم والخزي من بعضهم لبعض. ويحتمل أن يكون في موضع الحال من الضمير في {نحشرهم} ويكون معنى التعارف كالذي قبله، ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير في {يلبثوا} ويكون التعارف في الدنيا، ويجيء معنى الآية ويوم نحشرهم للقيامة فتنقطع المعرفة بينهم والأسباب ويصير تعارفهم في الدنيا كساعة من النهار لا قدر لها، وبنحو هذا المعنى فسر الطبري، وقرأ السبعة وجمهور الناس {نحشرهم}، بالنون، وقرأ الأعمش فيما روي عنه، {يحشرهم} بالياء، وقوله {قد خسر الذين} إلى آخرها حكم على المكذبين بالخسار وفي اللفظ إغلاظ على المحشورين من إظهار لما هم عليه من الغرر مع الله تعالى، وهذا على أن الكالم إخبار من الله تعالى وقيل: إنه من كلام المحشورين على جهة التوبيخ لأنفسهم، وقوله تعالى: {وإما نرينك} الآية، {إما} شرط وجوابه {فإلينا}، والرؤية في قوله {نرينك} رؤية بصر وقد عدي الفعل بالهمزة فلذلك تعدى إلى مفعولين أحدهما الكاف والآخر {بعض}، والإشارة بقوله {بعض الذي} إلى عقوبة الله لهم نحو بدر وغيرها، ومعنى هذا الوعيد بالرجوع إلى الله تعالى أي إن أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب ثم مع ذلك فالله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم ف {ثم} هاهنا لترتيب الإخبار لا لترتيب القصص في أنفسها، وإما هي إن زيدت عليها ما ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة ولو كانت إن وحدها لم يجز.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9